الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فيه سبع مسائل:الأُولى قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} ختم السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق ولِيَّه الذي يستعين به.وقد تقدّم معنى الهجرة والجهاد لغةً ومعنًى.{والذين آوَواْ ونصروا} معطوف عليه.وهم الأنصار الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم، وانضوى إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرون.{أولئك} رفع بالابتداء.{بَعْضُهُمْ} ابتداء ثان {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} خبره، والجميع خبر إنّ.قال ابن عباس: {أولياء بعض} في الميراث؛ فكانوا يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر من هاجر فنسخ الله ذلك بقوله: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ} الآية. أخرجه أبو داود.وصار الميراث لذوي الأرحام من المؤمنين.ولا يتوارث أهل ملّتين شيئًا.ثم جاء قوله عليه السلام: «ألحِقوا الفرائض بأهلها» على ما تقدّم بيانه في آية المواريث.وقيل: ليس هنا نسخ، وإنما معناه في النصرة والمعونة؛ كما تقدّم في النساء.{والذين آمَنُواْ} ابتداء والخبر {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} وقرأ يحيى بن وثَّاب والأعمش وحمزة {من وِلايتهم} بكسر الواو.وقيل هي لغة.وقيل: هي من وليت الشيء؛ يقال: ولِيٌّ بيّن الوَلاية.ووالٍ بيّن الوِلاية.والفتح في هذا أبيَن وأحسن؛ لأنه بمعنى النصرة والنسب.وقد تطلق الوِلاية والوَلاية بمعنى الإمارة.الثانية قوله تعالى: {وَإِنِ استنصروكم فِي الدين} يريد إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم.إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدّته.ابن العربي: إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة؛ حتى لا تبقى منا عين تطرِف حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم.كذلك قال مالك وجميع العلماء؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما حلّ بالخلق في تركهم إخوانَهم في أسر العدوّ وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوّة والجَلَد.الزجاج: ويجوز {فعليكم النصر} بالنصب على الإغراء. اهـ..قال الخازن: قوله: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} يعني إن الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بما جاءهم به وهاجروا يعني وهجروا ديارهم وقومهم في ذات الله وابتغاء رضوان الله وهم المهاجرون الأولون وجاهدوا يعني وبذلوا أنفسهم في سبيل الله يعني في طاعة الله وابتغاء رضوانه {والذين آووا ونصروا} يعني آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه من المهاجرين وأسكنوهم منازلهم ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الأنصار {أولئك} يعني المهاجرين والأنصار {بعضهم أولياء بعض} يعني في العون والنصر دون أقربائهم من الكفار وقال ابن عباس: في الميراث وكانوا يتوارثون بالهجرة وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون أقربائهم وذوي أرحامهم وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة وانقطعت الهجرة فتوارثوا بالأرحام حيثما كانوا فصار ذلك منسوخًا بقوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}وقوله تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا} يعني آمنوا وأقاموا بمكة {ما لكم من ولايتهم من شيء} يعني من الميراث {حتى يهاجروا} يعني إلى المدينة {وإن استنصروكم في الدين} يعني استنصركم الذين آمنوا ولم يهاجروا {فعليكم النصر} يعني فعليكم نصرهم وإعانتهم {إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي عهد فلا تنصروهم عليهم {والله بما تعملون بصير}. اهـ..قال أبو حيان: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}قسّم الله المؤمنين إلى المهاجرين والأنصار والذين لم يهاجروا فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإسلام وأول من استجاب الله فهاجر قوم إلى المدينة وقوم إلى الحبشة وقوم إلى ابن ذي يزن ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان وسبب تقوية الدّين: «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» وثنّى بالأنصار لأنهم ساووهم في الإيمان وفي الجهاد بالنفس والمال لكنه عادل الهجرة إلايواء والنصر وانفرد المهاجرون بالسبق وذكر ثالثًا من آمن ولم يهاجر ولم ينصر ففاتهم هاتان الفضيلتان وحرموا الولاية حتى يهاجروا ومعنى {أولياء بعض} في النصرة والتعاون والموازرة، كما جاء في غير آية نحو: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: ذلك في الميراث آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة وليّ مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري.قال ابن زيد: واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بعد لما لم تكن هجرة فمعنى {ما لكم من ولايتهم من شيء} نفي الموالاة في التوارث وكان قوله: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى} نسخًا لذلك وعلى القول الأوّل يكون المعنى في نفي الولاية على أنها صفة للحال إذ لا يمكن ولايته ونصره لتباعد ما بين المهاجرين وبينهم وفي ذلك حضّ للأعراب على الهجرة، قيل ولا يجوز أن تكون الموالاة لأنه عطف عليه وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن تكون الولاية المنفية غير النّصرة انتهى.ولما نزل: {ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} قال الزبير هل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا فنزل: {وإن استنصروكم} ومعنى ميثاق عهد لأن نصركم إياهم نقض للعهد فلا تقاتلون لأنّ الميثاق مانع من ذلك وخصّ الاستنصار بالدين لأنه بالحمية والعصبية في غير الدين منهى عنه وعلى تقتضي الوجوب ولذلك قدّره الزمخشري بقوله: فواجب عليكم أن تنصروهم.وقال زهير:وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة {ولايتهم} بالكسر وباقي السبعة والجمهور بالفتح وهما لغتان قاله الأخفش، ولحن الأصمعي الأخفش في قراءته بالكسر وأخطأ في ذلك لأنها قراءة متواترة، وقال أبو عبيدة بالكسر من ولاية السلطان وبالفتح من المولى يقال مولى بين الولاية بفتح الواو، وقال الزجاج بالفتح من النصرة والنسب وبالكسر بمنزلة الإمارة قال: ويجوز الكسر لأنّ في تولي بعض القوم بعضًا جنسًا من الصناعة والعمل وكل ما كان من جنس الصناعة مكسور مثل القصارة والخياطة وتبع الزمخشري الزجاج فقال: وقرئ {من ولايتهم} بالفتح والكسر أي من توليهم في الميراث ووجه الكسر أنّ تولي بعضهم بعضًا شبه بالعمل والصناعة كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمرًا ويباشر عملًا، وقال أبو عبيد والذي عندنا الأخذ بالفتح في هذين الحرفين نعني هنا، وفي الكهف لأنّ معناهما من الموالاة لأنها في الدين، وقال الفرّاء: يريد من مواريثهم فكسر الواو وأجب إليّ من فتحها لأنها إنما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة وقد ذكر الفتح والكسر في المعنيين جميعًا، وقرأ السلمي والأعرج بما يعملون بالياء على الغيبة. اهـ. .قال أبو السعود: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ} هم المهاجرون هاجروا أوطانَهم حبًا لله تعالى ولرسوله {وجاهدوا بأموالهم} بأن صرفوها إلى الكُراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج {وَأَنفُسِهِمْ} بمباشرة القتال واقتحامِ المعارك والخوضِ في المهالك {فِى سَبِيلِ الله} متعلقٌ بجاهدوا، قيدٌ لنوعي الجهادِ، ولعل تقديمَ الأموال على الأنفس لما أن المجاهدةَ بالأموال أكثرُ وقوعًا وأتمُّ دفعًا للحاجة حيث لا يُتصور المجاهدةُ بالنفس بلا مجاهدة بالمال {والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ} هم الأنصارُ آوَوا المهاجرين وأنزلوهم منازلَهم وبذلوا إليهم أموالَهم وآثروهم على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة ونصروهم على أعدائهم {أولئك} إشارةٌ إلى الموصوفين بما ذكر من النعوت الفاضلةِ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو طبقتِهم وبُعدِ منزلِتهم في الفضيلة وهو مبتدأ وقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ} إما بدلٌ منه وقوله تعالى: {أَوْلِيَاء بَعْضٍ} خبرُه وإما مبتدأٌ ثانٍ وأولياءُ بعضٍ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول أي بعضُهم أولياءُ بعضٍ في الميراث، وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنُصرة دون الأقاربِ حتى نُسخ بقوله تعالى: {وَأُوْلُو الارحام} الآية، وقيل: في النُصرة والمظاهرة، ويردُه قوله تعالى: {فَعَلَيْكُمُ النصر} بعد نفي موالاتِهم {والذين آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} كسائر المؤمنين {مَا لَكُم مّن ولايتهم مّن شيء} أي من تولّيهم في الميراث وإن كانوا من أقرب أقاربِكم {حتى يُهَاجِرُواْ} وقرئ بكسر الواو تشبيهًا بالعمل والصناعة كالكتابة والإمارة {وَإِنِ استنصروكم في الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} فواجبٌ عليكم أن تنصُروهم على المشركين {إِلاَّ على قَوْمٍ} منهم {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق} معاهدةٌ فإنه لا يجوز نقضُ عهدِهم بنصرهم عليهم {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا تخالفوا أمرَه كيلا يحِلَّ بكم عقابُه. اهـ..قال الألوسي: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ}هم المهاجرون الذين هجروا أوطانهم وتركوها لأعدائهم في الله لله عز وجل: {وجاهدوا بأموالهم} فصرفوها للكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج من المسلمين {وَأَنفُسِهِمْ} بمباشرةِ القتال واقتحام المعارك والخوض في لجج المهالك {فِى سَبِيلِ الله} قيل: هو متعلق بجاهدوا قيد لنوعي الجهاد، ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين هاجروا وجاهدوا ولعل تقديم الأموال على الأنفس لما أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعًا وأتم دفعًا للحاجة حيث لا يتصور المجاهدة بالنفس بلا مجادة بالمال، وقيل: ترتيب هذه المتعاطفات في الآية على حسب الوقوع فإن الأول الإيمان ثم الهجرة ثم الجهادب المال لنحو التأهب للحرب ثم الجهاد بالنفس {والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ} هم الأنصار آووا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وآثروهم على أنفسهم ونصروهم على أعدائهم {أولئك} أي المذكورون الموصوفون بالصفات الفاضلة، وهو مبتدأ وقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ} إما بدل منهم، وقوله سبحانه: {أَوْلِيَاء بَعْضٍ} خبر وإما مبتدأ ثان و{أَوْلِيَاء} خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول أي بعضهم أولياء بعض في الميراث على ما هو المروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن ومجاهد والسدي وقتادة فإنهم قالوا: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة، فالولاية على هذا الوراثة المسببة عن القرابة الحكمية.والآية منسوخة، وقال الأصم: هي محكمة، والمراد الولاية بالنصرة والمظاهرة وكأنه لم يسمع قوله تعالى: {فَعَلَيْكُمُ النصر} بعد نفي موالاتهم في الآية الآتية {والذين ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} كسائر المؤمنين {مَا لَكُم مّن ولايتهم مّن شيء} أي توليهم في الميراث وإن كانوا أقرب ذوي قرابتكم {حتى يُهَاجِرُواْ} وحينئذٍ يثبت لهم الحكم السابق.وقرأ حمزة والأعمش ويحيى بن وثاب {ولايتهم} بالكسر، وزعم الأصمعي أنه خطأ وهو المخطئ فقد تواترت القراءة بذلك، وجاء في اللغة الولاية مصدرًا بالفتح والكسر وهما لغتان فيه بمعنى واحد وهو القرب الحسي والمعنوي كما قيل، وقيل: بينهما فرق فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه والكسر ولاية السلطان ونسب ذلك إلى أبي عبيدة وأبي الحسن، وقال الزجاج: هي بالفتح النصرة والنسب وبالكسرة للإمارة، ونقل عنه أنه ذهب إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعات ولذا جاء فيها الكسر كالإمارة، وذلك لما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة من أن فعالة بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء ويجعل فيه كاللفافة والعمامة وفي المصادر يكون في الصناعات وما يزاول بالأعمال كالكتابة والخياطة والزراعة والحراثة، وما ذكره من حديث التشبيه بالصناعات يحتمل أن يكون من الواضع بمعنى أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك فتكون حقيقة ويحتمل أن يكون من غيره على طرز تشبيه زيد بالأسد فحينئذٍ يكون هناك استعارة، وهي كما قال بعض الجلة: استعارة أصلية لوقوعها في المصدر دون المشتق وإن كان التصرف في الهيئة لا في المادة، ومنه يعلم أن الاستعارة الأصلية قسمان ما يكون التجوز في مادته وما يكون في هيئته {وَإِنِ استنصروكم إِلاَّ على قَوْمٍ} منهم {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق} فلا تنصروهم عليه لما في ذلك من نقض عهدهم {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا تخالفوا أمره ولا تتجاوزوا ما حده لكم كي لا يحل عليكم عقابه. اهـ.
|